الأحد، 25 أكتوبر 2009

خرج ولم يعد

(خرج ولم يعُدْ) عبارة قد تكون سمعتها كثيراً في نهاية الأخبار في الراديو، أو قرأتها في إحدى الصحف، وأن من صفاته الأساسية أنه (مختلّ العقل)، ومن النادر أن تسمع بـ عاقل خرج ولم يُعد، على الرغم من أن العقلاء الذين يخرجون بإرادتهم ولا يعودون؛ أكثر من المختلين الذين لم يعودوا، ولكن الذي تلاحظه أكثر أن الأوصاف التي تُذاع من الصعب عن طريقها أن تجد هذا الذي خرج ولم يعد، والذي غالباً ما تكون أوصافه كالآتي:

- عيونه عسلية، شعره فلفلي، أسمر اللون، يرتدى جلباب لونه أبيض، أو قميص اسود وبنطلون أحمر، مختلّ العقل، من يجده عليه تسليمه لأقرب مركز شرطة.!

نسمع مثل هذا الخبر كثيراً، ولكن لم نسمع في يوم من الأيام أن أحد المختفين وجده مواطن سمع بأوصافه من الراديو أو الصحف، لأن الأوصاف السابقة من الصعب أن تجد بها شخص مختف، وإذا افترضنا أنه تم إيجاده، فأنك لن تسمع بتاتاً في أخبار التاسعة تنويهاً كالآتي:

- الإخوة المواطنين الكرام .. نحييكم فرداً .. فرداً .. ونتمنى لكم دوام الصحة والعافية .. نفيدكم بأننا وجدنا الرجل الذي كان مختفياً .. ونأسف كثيراً لأننا أتعبنا سعادتكم معنا بالبحث.. جزاكم الله خيراً .. وشكر الله سعيكم.!

إذا سودانيّاً، كنت تأكل الطعام وتركب المواصلات وتمشي في الأسواق، فمن خلال الملاحظة والبحلقة في وجوه الناس، وإذا دققت النظر جيداً؛ ستجد أن معظم السودانيين تنطبق عليهم أوصاف الأشخاص عينة الذين خرجوا ولم يعودوا، تأمّل في العيون – أبعد عن عيون البنات .. حتى لا تجعلني لك سبباً- ستجد أن كل العيون أو معظمها عسلية اللون، في حياتي لم أجد سودانياً عيونه خضراء أو كحلية، وجدتُ بعضاً منهم عيونه حمراء يتّقد منها الشرر، وهذه في الأصل كانت عسلية، إلاّ أنها احمرّت لأسباب يسع لها المجال هنا تماماً، لكن لا داعٍ لذلك.!

الكثير منا يمتلك شَعراً فلفلياً .. وهذا عكس الشعر (السبيبي) الناعم، ما أعرفه أن الشعر الفلفلي يشبه الفلفل، ومعظم السودانيين له شعر فلفلي، لذا عبارة (شعره فلفلي) التي يصفون بها الشخص المختفي، لم تعد تصلح بأن يوصف بها أحد عندنا، سواء خرج ولم يعد أو خرج وعاد!

اللون الأسمر هو اللون المعروف للسودانيين وهو الذي يميّزنا عن بقية الشعوب، وهذا لا يمنع أن منا من كان لونه فاتحاً أو غامقاً، هذا للرجال، أما البنات فـ منهن من تتدرج ألوانهم عكس اتجاه ألوان الطيف، ولكن من حكم الله أنني لم أسمع أن فلاناً ما خرج ولم يعد، وأن من أوصافه أنه أبيض اللون! وهذه من الممكن أن تكون نواة لدراسة جديدة مفادها بأن الناس السُمر لديهم قابلية أن يخرجوا ولا يعودوا أكثر من الناس الـ لونهم فاتح.!

بما أن السودانيين معظمهم سُمر، إذاً عندما تصف بأن فلاناً هذا لونه أسمر، تكون قد أهدرت بعض كلمات اللغة العربية في غير طائل، وهذا يشبه تفسير الماء بالماء والبطيخ بالبطيخ!

أما اللبس فمن الحكمة أيضاً أن غير المختفين يلبسون نفس ملابس المختفين، فنحن إما أن يكون لبسنا جلابية أو بنطلون وقميص أو فانلة، مع أن بينهما أمور مشتبهات يلبسها البعض، وهي لا تميل إلى البناطلين، ولا إلى الجلاليب! وهذا يؤدي إلى أن التمييز بالملابس صعب، خاصة وأن الجلاليب معظمها أبيض اللون، وأن ألوان الأقمصة والبناطلين والفنايل لا تتجاوز السبعة ألوان.!

نأتي إلى آخر الأوصاف (مختل العقل)، فـ مرات من الصعب أن تفرز بين العقلاء ومختلي العقول، ولا تظنن أن المجنون أو مختل العقل هو فقط من يقذف الناس بالحجارة في الشوارع، أو يتكلم لوحده، أو يمشي عارياً ويمسك ساطوراً تسيل منه الدماء والزبد يتناثر من شفتيه، إن من المجانين من يلبس أفضل من (توم كروز)، وإذا تكلم معك قد يقنعك بالمنطق بأنك أنت المجنون لكنك لا تعرف هذه المعلومة المهمة.!

مما سبق نقترح على ناس الإذاعة أن ينتهجوا نهجاً جديداً في إذاعة أوصاف المختفين والذين خرجوا ولم يعودوا، وأن يكون الوصف أكثر دقة، وسأورد لك هنا مثالاً:

- الإخوة المواطنين الكرام .. خرج المدعو عكرمة بن الأحنف من قبيلة بني تميم ولم يعدْ حتى الآن، أوصافه كالآتي: أولاً أنه حنون، غير مختلّ العقل .. وغير مجنون .. وصحته أفضل منك، ومني –أنا المذيع شخصياً- البعض يقول أنه خرج غاضباً! أما عن ملامحه فإنه أصلع وله رأس صغير ومركب على كتفيه بحيث يمكن للجميع رؤيته من جميع الجهات بكل سهولة، مع العلم أن له أنف أكبر من أن يستوعبه الخيال، وأعين أصغر من أن توصف، حواجبه غير مقرونة، وهو لا بالطويل ولا بالقصير ولا بالمتوسط ولا بالسمين ولا بالنحيف، وإنه تيتّم بعد أن وصل الأربعين، وإنه –أحبّتي- عاش حياته كلها مُفلّساً ومعدماً فـ لا طال منها عنب المكسيك ولا بلح السنغال.!


0 التعليقات:

إرسال تعليق