الثلاثاء، 20 أكتوبر 2009

صفحة من مذكراتي - 2

ذات يومٍ، والشمس تنحدر نحو الأصيل، كُنّا جلوساً على طرف الشارع، أنا ومعي أحد أصدقائي الثرثارين، خلَف صديقي رجله اليمنى على رجله اليسرى، وكان يطرقع أصابع قدمه بإعزاز وكأنما اكتشف أن له قدم للتو، قال لي وسط صوت الطرقعات التي تشبه صوت مطر يهطل على لوح من الزنك:

- يا أخي يا أسامة .. أنت كاتب صحفي .. لماذا لا تكتب لنا في أحوال البلاد؟

خلفتُ رجلي وبدأت أطرقع مثله إلاّ أن أصابع قدمي خذلتني، هذه الحمقاء رفضت أن تطرقع، وبعد عدة محاولات فاشلة طرقع أصبع واحد لا غير، بعدها قلت له مُحبَطاً:

- أحوال البلد مثل ماذا بالضبط؟

رد علىّ وهو يحوّل من طرقعة أصابع أرجله إلى طرقعة أصابع يديه، والغريب أنه يمكنه أن يطرقع الأصبع الواحد أكثر من مرة، وهذه أعتبرها ظاهرة كونية نادرة، وموهبة أنا شخصياً لا أملكها، هذا الفتى أستطيع أن أتنبأ له بمستقبل مبهر في هذا المجال، ولو كانت هنالك جمعية لهواة طرقعة الأصابع سيكون رئيسها الفخري بلا منازع، أستطيع أن أضمن له هذا على الأقل، قال صديقي:

- اكتب عن الكهرباء المتدنية والماء الذي يقطع كلّ يوم .. أكتب عن خريجين الجامعات العاطلين .. أكتب عن تسهيل الزواج للشباب!.

تم عبارته وهو يهز رجله بحرية واستمتاع بحركة أغاظتني كثيرا، هذا الولد يهتم برجله اليمين بالذات وكأنها ميزان الأكوان وحقيقة الوجود، قلت له بما معناه وأنا أرمق حركة رجله بغيظ مكتوم:

- هذه المواضيع تكلم عنها الصحفيون والمفكرون والحادبون على أمر البلاد وقتلوها بحثاً وتنقيباً، ولم يجدوا لها حلاً ناجعاً حتى الآن، هبْ أنني كتبت أن الكهرباء تقطع تسع مرات بين كل خمس دقائق، هل سيبنون مفاعلاً نووياً في غضون شهر لمجرد أنني غير راضٍ عن قطوعات الكهرباء المبرمجة، لابد أنهم لديهم أسبابهم القوية لقطعها، والتي لن يعرفها المواطن العادي مثلي.

أما بالنسبة لمشكلة الخريجين العاطلين، لا أعتقد أن حلها يكمن في أن أتحدث عنها -أنا بالذات- في الصحف، وهي مشكلة عالمية موجودة حتى في الدول العظمى، ووضعنا كدولة من دول العالم الثالث يجعلنا لابد وأن نعاني من زيادة العطالة، وافترض أنني قلت أن الخريجين العاطلين صاروا أكثر من اللازم هذه الأيام، لا أعتقد -بعدها مباشرة- أن المسئولين سيصدرون قراراً بتعيين مليون خريج عاطل في مليون وظيفة شاغرة تنتظرهم على أحرّ من الجمر، وذلك لمجرد أن شخصي الكريم لا يرضى عن وضع العطالة في البلاد، أما تزويج الشباب، فهذه بالتحديد عبارة عن مشكلة تابعة للعطالة، ترتفع إذا ارتفعت العطالة وتنخفض معها.!


هزّ صديقي رجله شديدة الأهمية، ونظر إليّ بحنق وكاد أن يتهمني بأنني خرسيس نرسيس ولا أراعي مصالح المواطنين البؤساء، وقال بغضب لا مبرر له وهو يزيد من سرعة طرقعة أصابع يديه بحركة تشبه استدعاء الشياطين:

- حسنٌ .. ما رأيك في التلفزيون والفضائيات؟ هل تعجبك هذه السخافات التي يقدّمونها؟

هنا ضاقت أخلاقي كمسافة بين سطرين، أمرته أولاً أن يكف عن طرقعة أصابعه وهز رجله السخيفة هذه قبل أن أحوله إلى جردل، ثم أجبته بـ:

- أنني أفتح التلفزيون كل ثمانية وثلاثين سنة مرة واحدة، لذلك لا أعرف حتى ما يقدمه هؤلاء القوم، أحياناً أستخدم التلفزيون كـ جهاز راديو متطور يتيح لي الاستماع وسرقة النظر إليه بين الفينة والأخرى، وهذا حسب علمي لا يؤهلني لأن أكون ناقداً إعلامياً متميزاً يشار إليه بالبنان… و..

قاطعني قائلاً:

- حسنٌ .. دع التلفزيون .. ما رأيك بسلطات البلدية، لماذا لا تهتم بالمجاري التي تصرّف مياه الخريف، حاول أن تكتب في هذا الموضوع، قل لهم أن يوسّعوا المجرى، فهو ضيّق جداً، ولا يكفي لاندفاع المياه، بهذه الطريقة سنغرق يوماً ما إذا زادت الأمطار عن حدّها الطبيعي.!

أجبته بأن الإخوة الكرام في سلطات البلدية مقتنعين تماماً بأن هذا المجرى يمكنه أن يُصرّف طوفان نوح بحاله إذا استدعى الأمر.. و..

هذا التعيس قاطعني مرة أخرى:

- أنت حاول ودع الباقي ..

قاطعته أنا هذه المرة قائلاً:

- ألم تسمع أيها الوغد بقصة (روبرت كوخ) العالم الألماني الذي نادى بأن الكوليرا تسببها (بكتريا واويّة)، تحداه أحد خصومه وشرب مزرعة كاملة من بكتريا الكوليرا أمام الشهود، مزرعة تكفي لقتل مائة رجل، ولسبب مجهول لم يصب بشيء ولا حتى عسر هضم، ولا تستبعد يا صديقي المنحوس أن يخرج لي من بينهم من يتحداني بأن هذا المجرى يكفي لتصريف نهر المسيسبي إذا حدث ومر من هنا.!

طنطن وهو يرشف آخر رشفة من الشاي، ثم مدّ ساقيه للأمام، واكتشفت أن له ساقين طويلتين لدرجة مفزعة جعلتني أفكر في كيف يسمح إنسان لنفسه بـ أن يطيل ساقيه لهذه الدرجة، ثم وضع قدح الشاي فارغ كـ عقل ضفدع ثم قال وهو يتجشأ كـ فرس النهر:

- والله أمرك عجيب .. إنتم يا معشر الصحفيين .. لا شيء يضيع مستقبل البلاد سوى مثل هذه الفلسفة الحمقاء!!

وأضاف صديقي:

- أريدك أن تجري معي لقاء صحفي .. أنا لدي أفكار ممتازة جدا للمسئولين.!

وأجبته بأن:

- أعمل معك لقاء بصفتك ماذا؟

- مواطن صالح يراعي مصالح البلاد.!

ثم نهض يتهيأ للذهاب قائلاً:

- ولن أتركك حتى تجري معي هذا اللقاء.. اتفقنا؟

- إن شاء الله.!

ذهب لحاله وتركني أفكر في الطريقة التي أهرب بها منه في المرة القادمة، بدأت في لملمة الكراسي وقبل أن أفعل أتى شاب لا أعرف حتى من هو، حدّق فيّ وقال بدهشة:

- أكيد أنت الصحفي أسامة جاب الدين!

قلت له بما معناه:

- نعم.. وأعتقد أن هذا اكتشاف لا بأس به!

ثم جذبني من يدي وجذب أحد الكراسي وجلس وهو يقول لي:

- طيب .. أجلس يا أخي .. أنا لدبّ ليك مواضيع كثيرة ممكن تكتب عنها .. مثلاً عطالة الخريجين والماء الذي يقطع كثيراً، والكهرباء غير المستقرة والمجاري التي ليست مؤهّلة لتصريف مياه الخريف...!!!

1 التعليقات:

sara_younes يقول...

موافقه

إرسال تعليق