الثلاثاء، 20 أكتوبر 2009

صفحة من مذكراتي - 1

(1)

اسمي أسامة جاب الدين كما تعلمون ولا أتوقع أن يثير هذا الاسم إعجابكم، خصوصاً وأن اسم (جاب الدين) هذا قد جلب لي الكثير من المشاكل، حتى أنني فكرتُ جادّاً في إقناع أبي بتغيير اسمه إلى (حمدان) أو (عبد الغفور) أو أي اسم شائع آخر، لأن أكثر من ثلاثة مليار نسمة سألوني سؤالاً من نوع:

- من أين أتى والدك بـ الدين؟

فأضطرّ أن أجيب كل واحد منهم على حده، حتى أنني أفكر في كتابة معنى اسم (جاب الدين) في كروت صغيرة أحملها معي على الدوام، وكل من يسألني عن معنى اسم أبي، أعطيه نصف دستة منها حُبّاً وكرامة، وبما أن المناسبة قد أتت، ولكلّ من يسألني عن معنى اسم (جاب الدين)، ولكل من لم يسألني ولكنه في نفسه يفكّر أن يسألني، ولكل من لم يسألني ولا يفكر حتى أن يسألني، لكن بقربه شخص ينوي أن يسألني؛ أقول لهم جميعاً أن كلمة (جاب) في اللغة العربية الفصحى لا تعني (جلب)، أي أن (جاب الدين) لا تعني (جلب الدين) كما تزعمون، كلمة (جاب) في اللغة العربية لها معانٍ كثيرة، سأضرب لك مثالاً أولاً، وبعدها سيتضح كل شيء:

- جابت السفينة البحار والمحيطات.!

أي (تبحّرت السفينة)، أعتقد أن الأمور اتضحت الآن، وأن (جاب الدين) معناه (تبحّر في الدين)، كلكم عرفتم المعنى، أتمنّى ألاّ يسألني أحد بعد الآن هذا السؤال السخيف، أما لماذا سُميّ أبى بهذا الاسم العجيب؟ فهذا ذنب جدي وليس ذنبي ولا ذنب أبي كما تعرفون.!

(2)

أما عن عاداتي، لا أحبّ الحديث عنها، من أنا حتى أتحدث عن تفاصيلي الصغيرة، إذا كنت نجيب محفوظ أو أنيس منصور لكان الأمر مقبولاً، حيث تشكل الحوادث الصغيرة في حياتهم تاريخاً تسترشد به البشرية من بعدهم، أما بالنسبة لفرد تقليدي مثلي، مّمن تعجّ بهم الأسواق، فلا يحقّ له أن يكتب مذّكراته من الأساس، لأن مثلي لم يقدّم شيئاً تستفيد منه البشرية، لم أخترع مقياس ريختر، لم أكتشف الحديد، لم أتوصل إلى معرفة العلاقة بين (فلسفة الماكروبيوتيك) و(البرمجة اللغوية العصبية)، إنني إذن إنسان عادي من أعظم بطولاته استبدال لمبة المطبخ التالفة بأخرى جديدة.!

وعلى الرغم من ذلك سأتحدث عن نفسي في أقل عدد ممكن من الكلمات، من هواياتي المفضّلة أنني أحب الأوكسجين وأكره (ثاني أكسيد الكربون)، اقضّي نصف يومي في القراءة، ونصفه الآخر في العمل ونصفه الثالث -إن كان به نصف ثالث- في النوم، درستُ بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، وكنت مثلي ومثل أي طالب من الولايات بعيداً عن أهله، لا يهمّه اختفاء (كولمبيا) من الخريطة بقدر ما يهمه اختفاء النقود من جيبه، وكنتُ كما هي العادة أملك جمجمة مفعمة بـ الأحلام العراض والأماني المستحيلة، التي تتلخص في أنني في يوم من الأيام – بعد أربعة سنوات غالباً- سـ أتقلد منصباً أو وظيفة كبيرة، مثلاً (المُقرِّر العام لـ كوكب الأرض)، أو حتى (المُفوّض المُكلّف لـ مجرّة درب التبانة)، أو بالعدم أن أصبح (ملك الأرجنتين)، هذا لو تنازلتُ وقبلتُ بالمنصب، وبالطبع كنوع من أحلام اليقظة أتخيّل أن وفداً من سكان الأرجنتين أتوا لكي يقنعون سعادتي لقبول المنصب، وأنا أقول لهم آسف يا سادة أنا لست أرجنتينياً، ولا أعرف تفاصيل مشاكل شعبكم، كما أنني لا أجيد لغتكم، وأشجّع منتخب البرازيل، وأنا أعتذر بشدّة وهم يبكون ويشقون الجيوب ويلطمون الخدود ويقولون:

- يا سنيور .. أنت خير من يتولى هذا المنصب ومن دونك سوف نقفل أبواب الأرجنتين وسنأتي لنستقر في صحراء العتمور بالسودان.!

ثم أصحو من أحلام اليقظة هذه وأحلم بجائزة نوبل في الفيزياء الفلكية على الرغم من أن تخصصي في الإحصاء التطبيقي وأحب الأدب.!

(3)

على الرغم من أنني لم أسكن في قريتي إلاّ ثلاث سنوات، إلاّ أنني تأثرتُ بها طيلة حياتي، أحب جو القرية كثيراً، وأحب بساطة الريف، وسماحة أهله وعدم تعقيدهم للأمور، تشرّبتُ بطبائع وأخلاق القرية، وعندما كنتُ صغيراً، كنتُ أحبّ أن يكلّفني الكبار بالمشاوير القصيرة، وأجلس في (الديوان) أو (الصالون) مع الكبار تحسّباً لأي خدمات طارئة، عندنا من العيب أن يقوم الكبير ليجلب ماءً للشرب بنفسه، ولا زلت أذكر صدى صوت جدي عندما كنت صغيراً وهو يناديني:

- أسامة يا ولد أملا كوب الماء سريعاً!

فأهبُّ قائماً في حماس لأملأ الكوب المزعوم راسماً علي وجهي علامات الخطورة وكأنني ذاهب لجلب (يورانيوم 235 ) من أجل مفاعل نووي، أقف عند الزير/القلّة وأقوم بملأ الكوب بجدّية راسماً على وجهي حكمة القرون ونظرات الفلاسفة، لابد أن هذه النظرة لم تظهر إلا على وجه (ابن سينا) وهو يتفحص مريضاً بالتيفوس، كنت أحب أن أجيد عملي حتى ولو كان ملأ (كوب).!

0 التعليقات:

إرسال تعليق