الثلاثاء، 20 أكتوبر 2009

الفيلسوف شيخنا يصف حالنا مع الدنيا

(1)

طلبتُ من الفيلسوف شيخنا أن يصف لي حالنا مع الدنيا وحال الدنيا معنا في عبارة واحدة لا غير، وهذا ليس امتحان لـ (شيخنا) لا سمح الله، ولكنني بالجد كنت أتوق لمن يشرح لي هذا الأمر بالمختصر المفيد.!

فكّر (شيخنا) في سؤالي بُرهة وتوقّعتُ بعدها أن يبدأ كلامه بعبارة (اعلم يا بُنيّ)، فهو عادة ما يستفتح بها قوله، وبالفعل لم يخيّب آمالي وقال:

- اعلم يا بنيّ أن حال الدنيا معنا وحالنا معها يتلخص في أننا حمقى ومغرورون والدنيا تعبث بنا.!

ثم أردف:

- هذا كل ما في الأمر يا بُني.

بالطبع حاولتُ أن أحلّل هذه الكلمات لأخرج منها بشيء يُفهم، ولكنني والحق يقال لم أصل لنتيجة مقنعة، رجوته أن يفصح أكثر، ويشرح لي أولاً كيف أننا حمقى؟

فقال لي:

- اعلم يا بُني أن الدنيا بالنسبة لنا نصفان، وأننا من فرط حماقتنا ننفق نصفها الأول في سبيل الوصول للنصف الثاني، وعندما نصل للثاني نتأسّف على ضياع الأول، وننفق الثاني في سبيل استعادة الأوّل.. أعتقد أن الأمر اتضح لك يا بُني.!

قلت له باندهاش:

- حاشا والله يا شيخنا لم يتضح، اخبرني أولاً ما هو النصف الأول؟

- النصف الأول هو الصحّة.!

- حسنٌ .. والثاني؟

- الثاني هو المال.!

هززت رأسي منتصراً ثم قلتُ له:

- أعتقد أنني فهمتُ يا شيخنا، أننا ننفق صحتنا من أجل كنز المال عندما نكون شباباً، وننفق ذات المال في سبيل أن تعود لنا صحتنا عند الكبر، ثم نأسف على ضياع صحتنا من أجل المال.!

ردّ شيخنا:

- نعم يا بني .. وهذه هي الحماقة بعينها.؟!

(2)

هززت رأسي علامة الموافقة وأنا أحاول أن أضع في عقلي حداً لمدى حماقتنا كبشر، وعندما لم استطع، قلت له:

- عرفتُ الآن أن حالنا مع الدنيا تحكمه الحماقة، ولكنك أيضاً قلت أننا مغرورون والدنيا تعبث بنا، كيف يكون هذا يا شيخنا؟

نظر إليّ شيخنا باستنكار وكأنه يتعجب من جهلي بمثل هذه الأمور البسيطة، ونظرت إليه نظرة بمعنى أنني ليس فيلسوفاً ولا حكيماً وما يراه هو من البديهيات بالنسبة لي نوعاً من الخيال العلمي، تفهّم موقفي وسألني:

- يا بُني ما هي مظاهر الغرور؟

- اعتقد أن منها الإصرار على فعل عملٍ مشكوك في نجاحه.!

- وما هو العبث؟

- اعتقد أنه السعي في غير جدوى.!

رد شيخنا ببساطة:

- أراك توصلت للحل يا بُني، أننا نصرّ ونجري وراء الدنيا لنصل إلى حدّها، وهذا هو الإصرار على عمل مشكوك في نجاحه كما قلتْ، ونكتشف أنّ لا حد لها، وعلى الرغم من ذلك غرورنا يصوّر لنا أننا من الممكن أن نصل إليه، ثم نجد أن الدنيا كانت تعبث بنا وتريد أن توصلنا إلى حد غير موجود.!

أطرقت في حرج وقلت له:

- الحقيقة يا شيخنا أنني لم أفهم بعد، وتعريفي لمظاهر الغرور والعبث، أعتقد أنه أتى صدفة وخبط عشواء فقط، فـ يا حبذا لو تكرّمت عليّ بتوضيح أكثر.!

ضحك شيخنا ثم قال:

- كنت تريد أن أختصر لك الأمر في عبارة واحدة حسبما أذكر.؟

قلتُ له مبررا:

- يا شيخنا .. أنت بنفسك أحياناً تقول: (إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة)، ولكنني اكتشفت أن رؤيتي أضيق من أن تتسع لفهم الدنيا في عبارة ضيقه كهذه، فهذا أمرٌ لا يستطيعه إلاّ الفلاسفة والحكماء من أمثال (شيخنا).!

(3)

ردّ شيخنا:

- سأضرب لك مثالاً يقرّب إليك كيف أننا مغرورون وأن الدنيا تعبث بنا، تخيّل معي أن أباً يداعب ابنه الصغير ليمتحن قوّته، يقبض الرجل كفّه لابنه الصغير على غير شيء، ويطلب منه أن يفتحها، ويَعِدَهُ بكل ما يجدهُ فيها إذا قوي على فتحها، فيجاهد الطفل في ذلك ما يجاهد، فيقوم ويقعد، ويشتد ويحدّ، ويلتوي ويعتدل، ويرفع إصبعا بعد إصبع، فإذا الذي رفعه قد عاد فأطبق مرة أخرى، ويعييه الجهد، فيركن إلى الحيلة والخديعة، وهو في كل هذا يحسب انه قادراً على أن يغلب أباه عنوة، أو يغلبه خديعة ومكرا، وهذا هو الغرور يا بنيّ، وهذا هو حالنا مع الدنيا.!

استدركته مبتهجا:

- هذه المرة فهمت تماماً يا شيخنا كيف أننا مغرورون ونصرّ على مغالبة الدنيا عنوة، اعتقد أنه تبقى لنا العبث الذي يصوّر حال الدنيا معنا.؟

شيخنا يواصل:

- عندما تلين قبضة الأب يفتحها الطفل فرحاً متخيّلاً أنه انتصر، فإذا به يجدها خاوية، وإذا بذلك العناء الذي أجهده وابهره قد ضاع سدى، وهذا هو العبث يا بُنيّ.!!


0 التعليقات:

إرسال تعليق