الثلاثاء، 20 أكتوبر 2009

فن التشكيل : تعقيد بلا سبب!!

الفن التشكيلي –المعقد منه فقط- نوع من أنواع الفنون التي لم يفتح الله عليّ بفهمها بتاتاً، وأقفُ من جميع اللوحات التشكيلية الغريبة موقف المحايد، لستُ ضدها، ولكنني بـ التأكيد لستُ معها، ولستُ مع أي شيء لا يمكن فهمه بـ العقل المجرّد، خصوصاً أن بعض الفنانين عندما تسأله عن شرح أحدى لوحاته، يقول لك أن ما يرسمه من فن يقع في نطاق الأشياء التي لا تُشْرح ولا تُفسّر ولا تُستحدث من عَدَمْ، وقد يضيفك قائلاً:

- إذا كنت تملك ربع أوقية من الحس الفني، يمكنك فهمها بـ تشرّبها عبر مسامات روحك مباشرة.!

(1)

أحياناً أزور معرضاً للفن التشكيلي الغريب، فـ أقف أمام لوحاته، وأتمعّن فيها بنظراتٍ تشبه نظرات الحجاج بن يوسف عندما ينوي قطع رقاب خصومه، وفي وقفتي أستدعي جميع الاحتمالات، ما الذي يقصده هذا الفنان؟ ما الذي يريد أن يوصله من جماليات عبر فنه؟ هذه اللوحة لا أفهمها ولكن ألوانها الهادئة تبعث الراحة في النفس، وتلك اللوحة الأخرى أيضاً لا أفهمها أيضاً ولكنها تعطيني شعوراً بالانقباض، وبالذات تلك الأشياء المرعبة ذات اللوامس والأشياء التي تسيل منها، إنها لا تعطي شعوراً بالارتياح على الإطلاق، هل هذا ما يريد الفنان الوصول إليه؟ قد يتهمني البعض بفساد ذوقي الفني، ومن يفعل ذلك أتمنى أن يدعو لي دعوة بظهر الغيب أن يفتح الله عليّ بفهم هذا الفن.!

(2)

أحد أصدقائي فنان تشكيلي يرسم لوحات مرعبة، زرتُ مرة أحد معارضه الفنية، وكلّفني بمهمة هي أصعب من خوض (معركة طروادة) بغير سلاح، طلب مني أن أسدّ مكانه في المعرض لمدة ساعة واحدة، لأن لديه مشواراً مهماً، وفي هذه المدة يتوجب عليّ أن أشرح لزوار المعرض ما يقصده من لوحاته العجيبة، رجوته أن يعْفيني من هذه المهمة، لأنه أسْهل عليّ أن أواجه لوحدي جيشاً جرّاراً من المغول على سفوح هضبة التبت من أن أشرح لوحة واحدة، بـ الذات وإن خبرتي في شرح اللوحات ليست بالعريضة، وأكبر إنجاز بطولي يمكن أن أقوم به في هذا الصدد، هو أن أشرح لوحة بها جدول ماء يجري، وبجانبه نساء يحملن الجرار على رؤوسهن وفي الجدول تسبح بطة سعيدة، ومن يسألني عن لوحة كهذه يمكن أن أقول له بكل ثقة إنها تمثل الريف بكل جماله وشفافيته.!

لم يعبأ صاحبي بكلامي، وتركني مع لوحاته التي نظرت إليها فوجدت فيها أشياء لا أدري كنهها، تفعل أموراً لا أدري ما هي.!

وكـ العادة كما في مثل هذه الأمور، خرج وبعد دقائق انهمر الزوار على المعرض كـ المطر، هذا يسألني عن لوحة مرسوم بها شيء يشبه الشبشب يخرج من وسطه قرن استشعار طويل، فـ أجيبه بأنها المشاعر السلبية في نفس الـ بني آدم، وآخر يسألني عن لوحة ينبعث من أحد أركانها دخان يشبه برلين حين دخلها الحلفاء، فأقول له إنها ترمز لانبثاق الـ أنا في النفس البشرية، بالطبع أحيانا اعترف أنني ما اعرفه عن لوحة معينة ليس أكثر مما اعرفه عن حيوان (الأرماديللو) .. ويسألونني عن (الأرماديللو) نفسه .. فأقول: الله أعلم.!

(3)

وبما أن المصائب لا تأتي فُرادى، في هذه اللحظة أتى وفد من التلفزيون، سألوا عن مصمم المعرض وصاحب هذه اللوحات البهيجة المفعمة بـ الأمل، أجبتهم بأنه غير موجود، طلبوا مني أن يجروا معي لقاءً تلفزيونياً باعتباري بدل فاقد، بل وطلبوا مني أن أشرح إحدى اللوحات للمشاهدين الكرام، أنا الذي كنت أعتبر نفسي العربجي الوحيد في المعرض، يطلبون مني شرح لوحة على الهواء مباشرة، عموماً، لم يكن هناك مفر، وجّهوا نحوي عدسة الكاميرا، وبدأتُ الحديث، لا أتذّكر التفاصيل، ولكن قلتُ كلاماً راقياً وعميقاً جداً عن الفن وعلاقته بالحياة، ولم يكن يعيبه إلا أنني نفسي لا أفهمه، لا أتذكر اللقاء كله، ولكنني تحدثتُ عن تأثير الفن في المجتمع، وتأثير المجتمع في الفن، وربما تحدثت عن تأثير عادة حك الأنف على الإرهاصات الأيدلوجية لنظرية (لامبروزو)، وطعّمت كلماتي بـ المزيد من السريالية والتكعيبية، وبعض من كلام المثقفين إيّاه.

(4)

بعدها اخترت لوحة لأشرحها للمشاهدين، كانت لوحة تتسم بطابع الاشمئناط، وبها شيء يجري كـ الظليم، وبقربه شيء طويل يشبه (الحنكليس)، وتحته شيء يشبه سحلية فشلت بالتظاهر بأنها بطيخة، واللوحة تبدو من بعيد كبطن ضفدعة تم وضعها فوق مقلاة، شرحتها بالتفصيل وقلت أشياء غير موجودة في اللوحة بتاتاً مثل ظاهرة (ديفاجو)، وبررتُ الأمر بأن الخطوط الحادة البارزة فيها توحي بالحتمية، بينما المنحيات الناعمة توحي بانكسار الروح.!

المهم أنني لم أقصّر في الشرح بتاتاً، ثم ذهب فريق التلفزيون، ومن المؤكد أنني تركت في نفوس المشاهدين الكرام انطباعاً لا باس به بإحساس الفن العميق.!

(5)

عُرضتْ إحدى اللوحات الفنية على الرئيس الأمريكي (إبراهام لنكون) ليبدي فيها رأيه، وقيل أنها من صنع فنان حديث، فتأملها الرئيس قليلاً ثم قال:

- استطيع أن أقول بحق أن الفنان الذي صنع هذه اللوحة فنان مُبدع، لأنه رسم شيئاً لا شبيه له في السماوات ولا في الأرض ولا في أعماق البحار.!


0 التعليقات:

إرسال تعليق